ارشيف الذاكرة .. رهاب يشبه الانتحار
يمنات
أحمد سيف حاشد
كان رهابي يخرس صوتي و يئده و يهيل عليه التراب .. يمزقه و يشتته حتى يتلاشى كالهلام .. يخنقه بقبضة من حديد قبل أن يصعد الكلام إلى فمي .. خجلي يبتلع لساني من جذرها المغروس في حنجرتي الملجومة بالرهاب .. طغيان يمارس سلطته بفجاجة على حياتي التي أثقلتني معاناتها..
كنت لازلتُ صغيرا أو حديث سن، فيما رهابي و خجلي باتا أكبر مني .. أضعاف وزني و سنين عمري العجاف .. مسحوقا أنا بخجلي و رهابي بإصرار لا يكل و لا يمل، و بتكرار لا يعرف الوهن .. خيبة و مرارة تجتاحني و أنا أقع في كل مرّة فريسة في شباكها لا أقوى على المقاومة..
لطالما عشت مأسورا بانطوائي و بالحياء المطبق بكلتا يديه على فمي المكتوم بعازل الصوت الذي يمنعني أن أطلب حاجة أو نجاة أو استغاثة .. يستطيع المرء أن يتصور مدى خجلي بصورة من يؤثر هلاكه على النطق بكلمة لا يزيد طولها عن الحرفين “قف”..
كيف لشخص أن يخجل من صوته و رفقته و يرتكب مغامرة تشبه الحمق الكبير..؟! يؤثر احتمالية الخطر على أن يسمع الناس صوته..؟! كيف لأحد بسبب حيائه و خجله و ما يتملكه من رهاب أن يقفز من السيارة التي تقله و هي مسرعة كالعاصفة دون أن يطلب من صاحبها التوقف برهة للنزول.
***
كان عمري يومها 15 عاما أو مقاربا لهذا .. توقف أبو شنب بسيارته “اللاندروفر” عندما أشرت له بالوقوف و السماح لي بالصعود إلى السيارة، فيما كنا نسميه “تعبيرة” .. أبو شنب الشعبي كان رجلا طيبا و معتادا على تعبير الطلاب الذين لا يملكون مالا، دون أن يأخذ منهم أجرة نقل، و لا سيما إن وجدك راجلا في الطريق و ترجوه خجلا بإشارة من يدك أن يوصّلك..
كان السائق عائدا إلى منطقة “ضوكة”، فيما كنت أنا قاصدا “شعب الأعلى”، مجفلا إلى قريتي في القبيطة .. كانت السيارة مزدحمة بالركاب .. وقف لي السائق بسيارته و تسلقت على حدائدها، و ظفرت بحيز صغير في مؤخرتها .. و بعد قليل تفاجئت إن السيارة متجهة إلى غير وجهتي..
كنت أظن وجود شخص أو أكثر ممن تقلهم السيارة سيطلب من السائق التوقف للنزول منها، لعل وجهتهم تماثل وجهتي، غير أن الخيبة داهمتني، و أنا اكتشف أن الجميع على غير وجهتي .. الجميع متجه إلى “ضوكة” .. وبسبب خجلي و ما يتملكني من رهاب، لم أتجاسر على أن أصرخ أو حتى أطلب الوقوف للنزول من السيارة التي تقلني .. كانت السيارة تسير بسرعة في وجهتها، و تبتلع المسافات بنهم و شراهة، فيما أنا آثرت القفز منها على طلب إيقافها .. كاد أن يقول الناس عنّي “و من الخجل ما قتل”..
قفزت من السيارة .. ارتطم جسدي على الأرض .. خلت جسدي في أول وهلة قد تطاير كالزجاج .. أرتطم ذقني على الأرض بقوة .. اصطكت أسناني و احتدمت ببعضها .. أرتطم الفكين فوق بعض حتى فقدت التمييز بين علوه و سافلة .. أحسست أن رأسي تفجر و تطاير كشظايا قنبلة .. شاهدت شررا قادحا من عيوني يخر في كل اتجاه .. شعرت أن الارتطام قد صيرني حطاما متطايرا لا يُجمع و لا يجتمع؛ فيما كان ركاب السيارة يصرخون و قد شاهدوا بغتة وقوع أحد ركابها منها دون أن يعلموا أنني فعلتها بمحض إرادة سببها الرهاب و الخجل .. أوقف السائق السيارة على إثر صراخ الركاب ليرى ما الذي حدث..؟
تعددت الإصابات في جسدي, دم يهر من سحجات و خدوش متفرقة على جسدي .. تهتكت و اتسخت ملابسي .. مغبرا أنا على غير عادتي و كأنني خرجت من قبر مندثر .. الغبار و الدخان كان لا يزال له في الطريق أثر .. دم يهر من الخدوش، و جرح و دم يسيل أسفل الذقن..
نزل السائق من كبينة السيارة ليرى ما حدث، فيما أنا غالبت وقع الارتطام و شرر الألم، و دفعني الحرج و الخجل الأشد أن استجمع قواي، و نهضت بمكابرة لا يعرفها من هو حديث السن لأنقل لمن كان في السيارة التي وقفت أنني معافا و على ما يرام، فيما السائق بدا في سعادة الناجي، و كأنه هو الناجي لا أنا .. كانت مكابرتي و نهوضي السريع بدافع الخجل أيضا قوية و غالبة، و دون أن أتفوه ببنت شفة .. بديت في شكل من يتحمل مسؤولية ما حدث كاملا دون نقصان..
و بعد مشقة و مغالبة للألم وصلت إلى بيتنا في “شرار”، و أول ما شاهدت في المرآة كان ذقني الجريح .. رأيت أسفل الذقن جانباً زائداً و جانباً ناقصاً في غير اتساق .. أختل النسق و الاستواء .. لا زال هذا الاختلال و العور ملحوظا إلى اليوم عند من يتفحص ذقني بالنظر..
اليوم كبرنا و صرنا و الوطن نصرخ بكل صوت .. السيارة التي تقلنا بلا كابح أو فرامل .. سيارة يعترك على مقودها من لا يجيد فنا أو قيادة .. مجانين حرب لا يجيدون حتى حساب الربح من الخسارة .. السيارة تمرق بأقصى سرعة و جنون .. استحال علينا حتى القفز منها .. باتت تهرول نحو المنحدر .. بات مصيرنا و الوطن مجهولا و مرعب..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.